♪。♡ مملكة عزف الحروف。♡ ♪ - شعبان و أسطورة ( قُصيَّر )

كثيرةٌ هي المعتقدات الاجتماعية المغلوطة التي توارثها آباؤنا عن أجدادنا و هم بدورهم – رحمهم الله جميعاً – ورثوها لنا و مارسوا علينا نفس الدور الذي مورس عليهم فحقنوا بها أذهاننا و شحنوا بها عقولنا منذ نعومة الأظفار و نحن مع الأسف تلقفناها على هيئة مسلمات و ثوابت لا تقبل النقاش ولا تحتمل المراجعة في وقتٍ هيمن فيه الفكر الأوحد و الرأي المتفرد فلم يكن في مقدور أحد أن يناقش في أدنى حقوقه الشخصية فضلاً عن قدرته على مناقشة بعض القناعات السائدة أو محاكمتها في ميزان الدين أو ميزان العقل.

واحدةٌ من أشهر تلك المعتقدات التي أعنيها الأسطورة المشهورة المتمثلة في تسمية شهر شعبان بــ ( قُصيِّر ) و الاقتناع بأن هذا الشهر هو أقصر من غيره من الشهور و أنه يمر سريعاً على حسب زعمهم فلا يعده الناس شهراً عادياً في أيامه و لياليه و أكاد أجزم أن هذا المعتقد سائد في معظم البلدان العربية على اختلاف ثقافاتها وتنوع مشاربها و دليلي على ذلك أنني قابلت أناساً من أقطارٍ مختلفة و دول شتى أقروا بوجود المعتقد ذاته و الفكرة نفسها و القناعة عينها بل لا يساورهم شك في هذا الأمر.

راجعت ما ورد عن شهر شعبان من فضائل و محاسن وخصائص في كتب السنة و كلام أهل العلم من السلف والخلف و تراث العرب و حاولت جاهداً تقصي البحث غاية التقصي فلم أجد في بحثي خبراً صحيحاً يتناول هذه المسألة جملةً و تفصيلاً و حاولت كذلك أن أتوصل إلى تاريخ نشوء هذا المعتقد الاجتماعي الشائع المتفشي فلم أفلح كذلك لكنني أظن والله تعالى أعلم أن هذا المعتقد قد نشأ في العصور المتأخرة قبل مئين قليلة من السنوات المنصرمة التى تراجعت فيها الحركة العلمية المؤصلة و اضمحل فيها الحراك الثقافي الواعي.

أما ما يتعلق بالسر الذي كان وراء نشوء هذا المعتقد هو أن البلدان العربية عموماً تغلب عليها الطبيعة الصحراوية التي غالباً ما يوافق قدوم رمضان فيها زمن الحرارة الشديدة و القيض المتوقد و هذا سبب معروف و مشتهر عند أهل اللغة في تسمية رمضان و نظراً لأن الناس في حال صيامهم أثناء رمضان لا يطيقون الاستمرار في أعمالهم المتنوعة خاصةً من كان منهم يشتغل بالزراعة و ما بعد الزراعة من مراحل الحصاد المختلفة فإنهم كانوا يحاولون جاهدين إنجاز المهام و قضاء الحاجات قبل أن ينقضي شعبان و يهل عليهم رمضان بهلاله المبارك و هكذا يقضون شعبان في عملٍ دؤوب متصل ملئي بالمهمات يسابقون فيه الزمن و لذلك فهم يشعرون مجرد شعور أن شعبان قصير و يمر سريعاً و الأعمال لم تنقضِ بعد و ما هذا إلا مجرد شعور وهمي يشعر به كل مشغول أثقلت كاهله المهام و الوقت يضيق به و أكاد أجزم أنه ما من أحدٍ من القراء إلا و عاش حالةً مشابهة يتمنى أن يجد فيها سوقاً تباع بها الأوقات و تشترى فيها الدقائق و الساعات .

إن الله جل و تقدس هو من خلق الشهور جميعاً و جعل عدة الشهور عنده تعالى اثني عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض و الشهر قدره ثلاثون يوماً غالباً و إن حصل نقص في الشهر فتارةً يصيب شعبان و تاراتٍ يصيب غيره من الشهور كما أن اليوم أربعة و عشرون ساعة و الساعة ستون دقيقة والدقيقة ستون ثانية فطالما استوت عدة الأيام و تساوت الساعات و الدقائق والثواني فكيف يقول عاقل يعمل عقله و يحترم تفكيره بأن شعبان قصير و ليس كغيره من الشهور.

أعرف كما تعرفون أناساً يقبعون خلف القضبان في غياهب السجون يمر عليهم شعبان بطيئاً جداً كغيره من الشهور وهم ينتظرون الفرج مع نفحات رمضان المعظم و أعرف كما تعرفون أناساً محبوسين على الأسرة البيضاء يمر عليهم شعبان بطيئاً جداً كغيره من الشهور وهم يتطلعون لمغادرة المشافي و المصحات لتذوق لذة العافية و نعيم الصحة و أعرف كما تعرفون آخرين التهبت مشاعرهم و جاشت عواطفهم يمر عليهم شعبان بطيئاً جداً كغيره من الشهور و هم يعدون الأيام التي تفصل بينهم و بين ليالي العرس و ساعات وصال الأحباب و لحظات التقاء العشاق و غير هؤلاء كثير من الفئات والطوائف لا يعيشون الشعور المزعوم والمعتقد الموهوم بقصر شعبان المعصوم و لا يؤمنون بسرعة تقضي أيامه و فناء لياليه.

الحقيقة أن مقدار الوقت واحد و الزمن نفسه و البركة في استثماره و الانتفاع به متفاوتة إلا أن العاملين المنتجين أياً كانوا يمر عليهم الوقت سريعاً و كل الشهور عندهم قصيرة بل يرون العمر كله قصيراً ولا يكفي لإنجاز مشروعاتهم و تحقيق طموحاتهم و ودوا لو بيعت لهم الأوقات فاشتروها أما الفارغون الذين لا ينجزون شيئاً طالما مر عليهم الوقت بطيئاً و طالما تفننوا في قتل الأوقات و تضييع الساعات فهم بحق يشبهون الأمتعة الفارغة التي دائماً تحدث الجلبة و تولد الضجيج.